جريدة السوهاجية

جريدة السوهاجية | صوت من لا صوت له

الدكتور محمد القاضي يكتب: مناقشة هادئة. .. لتيار الإصلاح (١)

الدكتور محمد عمر أبوضيف القاضي

القرآن حمال وجوه… القائمة الأولي من قوائم دابة الإصلاح نقول فيها:

هذه المقولةُ وردتْ عن سيدنا عليٍّ – رضِي الله عنْه- قالها لعبد الله بن عبَّاس، لمَّا بعثه للاحتِجاج على الخوارج، قال له: “لا تُخاصِمْهم بالقُرآن؛ فإنَّ القُرْآن حمَّالُ أوجُه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكنْ حاجِجْهم بالسنَّة؛ فإنَّهم لن يَجدوا عنْها مَحيصًا”. ومنْها قولُ ابن عبَّاس: “القُرآن ذلول ذو وجوه؛ فاحْمِلوه على أحسنِ وجوهِه “.

وقد اتخذها أناس من قديم و(تيار الإصلاح) زمننا تكأة، يعتمدون عليها في دعوى عريضة‏:‏ أن القرآن يحتمل تفسيرات مختلفة‏ وأفهاما متباينة، ‏ بحيث يمكن أن يحتج به على الشيء وضده ؛ لذا وجب الحديث عنها، فهي عبارة مشهورة، لكن الشهرة ليست دليل الصحة، ‏ولن أتكلم هنا – بتفصيل بل بإيجاز- عن رد كثير من العلماء لهذا الأثر، وتضعيفهم له من ناحية الصنعة الحديثية – الرواية والدراية-، فذكروا فيه عللا ثلاث …وتوجد في ثلاثة رواة من رواة هذا الأثر ، وهناك وجوه أخري أهمها :

قصة سيدنا عبد الله بن عباس مع الخوارج، ذلك الموقف الذي رويت فيه هذه المقولة، حيث إنه لما توجه لمناظرة الخوارج احتجَّ عليهم بالقرآن، وبدأ مناظرته بالاحتجاج بالقرآن؛ فكان أول ما فعله ابن عباس أن ذهب إلى الخوارج في حُلَّة جميلة، فقالوا له: مرحبًا بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون عليّ؟ لقد رأيت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أحسن ما يكون من الحلل، واحتج عليهم بقوله تعالى:” قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ”(الأعراف:32 )، واستمع إلى شبهات الخوارج ثم قال لهم… :أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله – جل ثناؤه- وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم- ما يرد قولكم أترجعون؟، قالوا: نعم … .

ورد علي كل كلامهم بالقرآن الكريم، وليس هنا موضع ذكر ذلك. ففعل ابن عباس واستعماله القرآن الكريم في حواره، رد لهذه العبارة، ونقض لها، ومخالفة لصريحها.
أيضا القران الكريم يرد ذلك الكلام، حيث يقول تعالي:” فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” (النساء: 59)، وإجماع المسلمين على أن الرد إلى الله يعني: الرد إلى كتابه‏، والرد إلى الرسول بعد وفاته يعني: الرد إلى سنته،‏ فإذا كان الكتاب حمال أوجه‏ كما يقال‏، فكيف أمر الله تعالى برد المتنازعين إليه؟‏ وكيف يعقل أن يرد التنازع إلى حكم لا يرفع التنازع، بل هو نفسه متنازع فيه؟. والقران هو الفرقان والهدي والنور، فكيف يوصف بذلك وفيه لبس وغموض؟

والناحية الأهم التي نناقش فيها أصحاب (التيار الإصلاحي) لو صح هذا الأثر ، فليس لهم أن يفهموه بطريقتهم التي تتسم بانتحالَ المبطلينَ المضللين، وتعج بتأويلَ الجاهلينَ بالقران والسنة المطهرة، ويظهر فيها غفلة القلب واتباع الهوي؛ لذا فسروا القرآن الكريم بما تشتهيه أنفسُهم المريضة، وبما يُناسب ذوقَهم الشخصي ذا الهوي الغربي الأعجمي ، وصار مقصدُهم الذي لا تخطئه عين ،ولا يختلف عليه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان، وصرحوا به دون تلميح ، وأعلنوه ولم يجمجوا ، هو الخروجُ عن أحكام القرآن الكريم، وتعطيل العمل بها، وبدأوا بقولهم: (ببعضها)، واللجوء إلي أحكام البشر مع وجود القرآن ، ولم يقصدوا فيما لم يرد فيه نصوص بل علي المطلق، وكذلك لا يقصدون أهل الفهم والعلم والفقه ، بل رفضوا عمل فقهائنا – كما سيأتي في المقال الآخر-.
وأما تفسير هذا الأثر لمن قال بصحته فهو كما قال الزَّركشي في (البرهان في علوم القرآن): وقوله ذلول يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مطيع لحامليه ينطق بألسنتهم ؛ الثاني: أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين. وقوله: ذُو وجوه، يحتمل معنيَين، أحدُهُما: أنَّ من ألفاظه ما يَحتمل وجوهًا من التَّأويل، والثَّاني: أنَّه قد جمع وجوهًا من الأوامِر والنَّواهي، والتَّرغيب والتَّرهيب، والتَّحليل والتَّحريم، وقوله: فاحملوه على أحسن وجوهه، يَحتمل أيضًا وجهينِ، أحدهما: الحمل على أحسنِ معانيه، والثَّاني: أحسن ما فيه من العزائم دون الرُّخَص، والعفو دون الانتِقام، وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستِنباط والاجتهاد في كتاب الله، والله أعلم”.

فمعنى هذا الأثَر إذن: ان المقصود بالأوجُه: هي الألفاظ المشْتركة الَّتي تُسْتَعمل في عدَّة معان، ويقْصد هنا سعة دلالة مُفْرداتِ القران الكريم، واتِّساع آياتِه لِوجوهٍ من التَّأويل مع الإيجاز، وهذا من آثارِ كوْنِه معجزةً خارقةً لعادة كلام البشَر، ودلالة على أنَّه منزَّل من لَدُن عليمٍ قدير؛ ولكن لا يَنبغي أن يُساءَ هذا الفَهْم لتُحمَّل الآيات ما لا تَحتمل، ويُستَخْرَج منها ما لا تدلُّ عليه، كما يفعل (تيار الإصلاح) ومنظرهم (أستاذ الفقه) ، والذي يدعو إلي الفوضى الفكرية والفوضى المجتمعية ,هي تابع للفوضى الخلاقة، التي يعملون لها في كل مجال ،وكذلك دعوى لهدم دين الإسلام ، بزعم عدم إحكام القران الكريم مستدلا بهذا الأثر ،والذي تكلَّم المسلمون -سلفُهم وخلفُهم- في معاني الوجوه، وفيما يحتاج إلى بيانٍ وتفسير، وما يحتمل وجوهًا متعددة، تسير في سياق تعدد الصواب، ويقينًا أنَّ جميع المسلمين سلفاً وخلفاً متَّفقون على أنَّ جَميع القُرآن الكريم ممَّا يمكن العُلماء معرفة معانيه، وفهم مراميه ،واستظهار مقاصده ، ومَن قال: إنَّ من القُرآن ما لا يَفهم أحدٌ معناه، ويحتمل وجوها كثيرة في أحكامه الثابتة المنظمة لشئون الحياة ، فإنَّه مُخالفٌ لإجْماع السلف والخلف وعلماء الأمَّة في جميع عصورها، كما أنه مخالف للكتاب والسنَّة .. وللفطرة السوية والعقول السليمة.

وأما أصحاب الضمائر الخربة والنيات السيئة ومن لهم أغراض فهم علي حد قول الجعدي: فالذين في قلوبهم مرض وزيغ، وانحراف، لسوء قصدهم يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة، طلباً للفتنة، وتحريفاً لكتابه، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا.

ووردبريس › خطأ

كان هناك خطأ فادح في هذا الموقع.

معرفة المزيد حول استكشاف الأخطاء في ووردبريس.