بقلم دكتور . وفاء الحكيم
قَرَّرْتُ أنا و”عَلِيُّ” – الذي كان يتلصَّصُ عَلَى جَسَدِي مِن خَلْفِ خَصَاصِ نافذتِهِ ، بَيْنَمَا كُنْتُ أُرْسِـلُ إليهِ بإشارات
مُوافَقَتي عَلَى لِقَائِهِ بعد ظهيرةِ يومٍ قَائِظٍ – وفي ذاتِ اللَّحْظَةِ – أَصْرُخُ فِي أُمِّي بأنَّنِي سأعودُ إليها حَالَمَاأنتَهِي مِن
سِقَايَةِ الزَّرْعِ في نافذَتِنَا – قَـرَّرْنَا سَـوِيَاً–الانتحار…!!!
كُنَّا قَـدْ ضِقْـنَـا ذَرْعَـاً بالكادر” الضَّيْـقِ” الَّـذِي تَغَـيَّـرَتْ أَلْـوَانُهُ مِـنَ الْأَبْيَضِ ،والْأَسْـوَدِ إلى الألوانِ كُلِّهَــا دون أَنْ يكونَ لذلكَ – تأثيرٌ-علي بهجةِ الألوانِ لَــدَيْـنَا….!!!
وكَمَا أَنَّ ” الزُّوووم إن” لَـمْ يُـنْجِـنَـا مِـنْ ضِيقِ التَّحَدِّي ، ولَم يَخْـرُجْ بنا”الزُّوووم أَوِتْ” لِحَيِّـزِ الْهَـواء الـنَّـقـِيِّ… !!!
فانْــتـَحَـرْنَا ….!
كانَ ذلكَ صبيحةَ يومِ الاثنينِ حيثُ الكُلُّ مشغولونَ بزحمةِ السُّــوْقِ، وَشِــرَاءِ الجُـبْنِ “القريش” من القروياتِ
الماكراتِ الجالساتِ على الرَّصِيفِ ، والذُّرَةِ “للدَّجَاجَاتِ والدِّيكِ” الَّتي سَـيَذبَحُونها في العيدِ ،وسيصنعونَ منهم مَرَقَةً يعطونَ منَها للجَارَاتِ “الطيِّبَاتِ” “الفقيراتِ” .
وبَحَثَتْ الشرطةُ فوجدَتْ ثلاثةَ جُثَثٍ… ؟؟
واحدةً لي بعد أنْ اتَّهموا “عَلِىَّ” بأنَّه اعتدى عَلَىَّ، وأنَّنِي كنتُ حامِلَاً مِنْهُ .
وجثةً” لعَلِيّ” بعد أنْ اتَّهموني بأنَّنِي تحولتُ لواحدةٍمن مصاصي الدَّمَاءِ، وأنَّني ظَلِلْتُ أَمَصُّ دماءَه ُبشهوةٍ حتَّى-
استنزفتُ كلَّ الدِّمَاءِ الَّتي كانتْ لديهِ -وتركتُهُ جُثَّةً لا طائلَ مِنْهَا، بينما تركتُ أحدَ أنيابي – مُنْغَـرِسَاً في لحم كتفِهِ- دليلاً قاطِعَاً على فَعلتي ..!
ــ أمَّا الجثةُ الثالثةُ فكانتْ لطفلٍ- مُتَّسِخٍ ،مُجْهَـدٍ، مُـتَجَـوِلٍ في كلِّ الشَّـوارعِ، وجالسٍ على كلِّ الأرصفةِ – اشترى لِي
“لِيُّ” منه ذاتَ مرةٍ عُـقـْـدَاً من الفُلِّ –وألبسني إياه – حاول أنْ يسبحَ ليصلَ إلى الناحيةِ الأُخرَى فابتلعتْهُ الدواماتُ، ورماهُ اليَمُّ بعيداً.. !!
وجمعونا “أنا” و”علىَّ” و”الطفلَ” وشرَّحُوا جثَثَنَا، وكتبوا تقاريرَ” الوفاةِ” ثم أمروا بدفنِنِا في مدافنِ الصَّدَقَاتِ .
فلَمْ يأتِ أحدٌ من أقاربِنا ،ولا أصدقائِنا، ولا معارفِنا لاستلامِ جثتَيْنَا أنا و”على !!؟؟
حتى الطفلُ لم يأتِ “مدرسُ الُّلغةِ العربيةِ” – الَّـذي لم ينجحْ في أَنْ يُـبْـقِـيـَــهُ داخلَ أَرْوِقَةِ الأمنياتِ ليعلِّمَهُ أسماءَ
الورودِ، ورائحتَها، وشكلَ بذورِها ومعنى غرقِ الورودِ، وتلاشي الرائحةِ وكيف تطفـو الزهورُ متحديةً ، لتسبحَ ضدَّ التيارِ – فتركَهُ الطفلُ يوماً وأطلقَ ساقيه لِعَبَثِ المسافاتِ…
لم يأتِ “المدرسُ” لاستلام الجثةِ الَّـتي بقيَتْ لأيامٍ منتفخةً، وممتلئةً بالرِّمالِ، والحشائشِ .
ولم يكنْ هذا ذنبُ “المدرسِ وحدَهُ ” فقد كان مقبوضاً عليه مع كلِّ مَن تَمَّ القبضُ عليهم من “مدرسي اللغةِ
العربيةِ” بتهمةِ سرقةِ الهَمَزاتِ، والتحرُّشِ بالفواصلِ ، واختلاسِ علاماتِ الاستفهامِ ، وتكديرِ الصَّمْتِ العَامِ …..