جريدة السوهاجية

جريدة السوهاجية | صوت من لا صوت له

الدكتور محمد القاضي يكتب: مناقشة هادئة لتيار الإصلاح (4)

الدكتور محمد عمر أبوضيف القاضي

آراء الفقهاء فقه بشري، وهذه القائمة الرابعة من قوائم دابة الإصلاح ،ونقول فيها :

إن تيار الإصلاح ومنظرهم يريدون هدم المجتمع وتقويضه؛ وذلك ما يطلبه من يدفع لهم، فهم يدعون إلى فوضى مجتمعية ، بما يدعون إليه من الفوضى الفكرية، سيما في الفقه الإسلامي والذي يتولى كبره أستاذ الفقه المقارن ، الذي يدعوك لترك أقوال العلماء بالكلية، أو أنك تختار بنفسك ، وذلك سيجعل كل واحد يختار لنفسه، أو كل مجموعة تختار رأيا يوافق هواها، ويناسب ميولها ، لا لصحته بل للهوى، وبالتالي ستجد انتشار الخلاف ، وظهور الاختلاف في الآراء، التي أحيانا تؤدي للاقتتال؛ لانحياز كل واحد أو مجموعة لرأيها المختار ، وهو عين ما يقتلنا لأجله الإرهابيون والدواعش، فهم يتبنون آراء بتفسيراتهم هم واختياراتهم أو ما يختار لهم، بما يوافق هوي من يدفع ، وصار ما نري من ظهور الجماعات والفرق ، وتبني كل مجموعة لرأي تدافع عنه وتدفع غيره ، ورأينا المعارك في كل شيء حتى في المساجد، ولولا أن تيار الإصلاح لا يجرؤون على التحدث في المسيحية ؛ لقلت بتطبيق منهجهم ستجد حتى الكنائس فيها قتال، لأننا-بما يدعوننا إليه- استغنيا عن العلماء وأهل التخصص ، وصار كل منا يختار لنفسه، ولو طبق هذا المنهج العبثي في باقي العلوم لخربت الدنيا، فكل واحد يقرأ كتابا في الطب أو الهندسة أو أي مجال فله أن يختار هو ما يشاء دون الرجوع إلى الأطباء أو المهندسين … إلخ، ولم يقل بهذا عاقل، فكل علم له علماؤه المتخصصون، الذين يعرفون كل شيء عن هذا العلم، ومنها علوم الدين ، وهؤلاء هم الذين يسألون ويستفتون في مجالهم، وهم أعرف الناس بالحق ووجه الصواب، لأنهم لم يصلوا لهذه الدرجة في تخصصهم إلا بعد مدراسة طويلة ، وخبرة كبيرة ، وتعلم استغرق سنين عديدة، وهذا المنهج العلمي في المدراسة الطويلة ومكابدة التعلم والحفظ والفهم وجمع العديد من العلوم التي تكون منهجا للاستنباط والفهم تكون علماء الفقه الإسلامي ، وأهمهم أصحاب المذاهب الأربعة التي ارتضاها المسلمون وتلقتها الناس بالقبول ، وأحاطها الله بالتوفيق والسداد حتي أجمعت عليها الأمة، وقد ذكر هذا الإجماع علي المذاهب الأربعة العلامة شمس الدين ابن مفلح – رحمه الله تعالى- قال في(الفروع): “وفي الإفصاح، أنَّ الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأنَّ الحق لا يخرج عنهم. ويأتي في العدالة لزومُ التمذهب بمذهبٍ، وجوازُ الانتقال عنه”. وابن مفلح من الحنابلة وهو يحكي الإجماع ، ولاحظ العبارة – التي جاءت بعد دراسة واطلاع – فالحق لا يخرج عن هذه المذاهب المعتمدة ، وإن حدث فهو نادر ، ولا يكاد يوجد .

لذا تنبه علماؤنا ونبهوا إلي أنه لا يسع المرء – خصوصا من يفتي أو ينسب للعلم ويسأله الناس- أن يفتي بغير هذه المذاهب، ولا يجوز له إذا كان فيها إجابة عن المسألة ، يقول العلامة ابن حجر الهيتمي في (الفتاوى الكبرى): “الذي تحرر ، أن تقليد غير الأئمة الأربعة – رضي الله تعالى عنهم – لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء ، وأما في عمل الإنسان لنفسه ، فيجوز تقليده لغير الأربعة ، ممن يجوز تقليده ،لا كالشيعة وبعض الظاهرية ، ويشترط معرفته بمذهب المقلد بنقل العدل عن مثله ، وتفاصيل تلك المسألة أو المسائل المقلد فيها وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلَّد، وعدم التلفيق لو أراد أن يضم إليها أو إلى بعضها تقليد غير ذلك الإمام….

ولا يشترط موافقة اجتهاد ذلك المقلد لأحد المذاهب الأربعة، ولا نقل مذهبه تواترا كما أشرت إليه، ولا تدوين مذهبه على استقلاله، بل يكفي أخذه من كتب المخالفين الموثوق بها المعول عليها…”. فتقليد غير هؤلاء الأئمة يجوز بشروط، وهذه الشروط صعبة ، وأهمها: يجوز لنفسه ، وليس في القضاء والإفتاء وبشروط ليست سهلة ولا يسيرة ولا يقدر عليها إلا علماء كبار.

وأما هؤلاء الفقهاء الأربعة فهم من أكمل أهل زمانهم خلقا ، وأحسنهم شيما ،وأعلاهم نفوسا، وأذكاهم عقولا، وقد استمسكوا بمكارم الأخلاق، وأدبوا نفوسهم ظاهرا وباطنا ، وراقبوا الله في خلواتهم وجلواتهم، وطلبوا العلم لله ؛ فوهبهم الله كمال الفهم، وصحة النظر ، ونفاذ البصيرة، فهم بشر متميز موفق ومسدد ومعان من الرحمن ؛ لإخلاص قلوبهم وصفاء نياتهم ،وتجردهم لله، وهم ليسوا معصومين، بل لكلامهم وقار واحترام وإجلال من الله ، حتى ما رُد من كلامهم رد لدليل ظهر لم يطلعوا عليه ، أو وجد دليل أقوى وأظهر، أو مصلحة أكبر، حتي من خالفهم في بعض آرائهم يجلهم، ويحترمهم، ويعرف قدرهم ، وهنا نقول ما قال الخطيب البغدادي لما ذكر الأئمة المتقدمين: “ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه، ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه، يلحق سيئ الظن بنا، ويرى أنا عمدنا للطعن على من تقدمنا، وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك وبهم ما ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا، وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا، وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء … عن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال” ،فكل عالم مهما بلغ صيتا وسمعة ،وارتفاع ذكر وشهرة هو كزرعة صغيرة، لا تكاد تظهر من الأرض، والسابق كالنخل الباسق المرتفع لعنان السماء .

وتخيل الصورة تعرف الفرق ، فهؤلاء الأئمة بلغوا من العلم مبلغا، قلَّ من يصل إليه ممن جاء بعدهم، وجازوا طريقا لا يقدر أن يجتازه من جاء بعدهم، وعند الموازنة أو المقارنة بين فهمهم وفهم أي عالم في عصرنا نري لا وجه أبدا، فالفرق بين الثري والثريا ،ونذكر هنا عبارة الحافظ الذهبي- رحمه الله تعالى- في: سير أعلام النبلاء: لم يبق اليوم إلا هذه المذاهب الأربعة، وقلَّ من ينهض بمعرفتها كما ينبغي، فضلًا عن أن يكون مجتهدًا. وهذا الكلام في عصر الحافظ الذهبي فما بالك في هذه العصور والتي لوثتها ما نري من شبهات وشهوات …و

بعبارة يسيرة، يفهمها العوام نقول ما قالته إحدى العوام لما سألت شيخا عن حكم فقهي، فقال لها :أفتيك بما قال مالك أو أفتيك بالكتاب والسنة، قالت : افتني بما قال مالك فهو أعلم منك بما في الكتاب والسنة، وهذا عين الصواب فكلام الأئمة سيما أصحاب المذاهب الأربعة هو الفهم الصواب للكتاب والسنة، وهو أحق ما يتبع، وقد قال الإمام النووي- رحمه الله تعالى- في روضة الطالبين :الناس اليوم كالمجمعين على أنه لا مجتهد اليوم، فلو منعنا تقليد الماضين، لتركنا الناس حيارى. ونحن أشد عوزا وحاجة لكلامه هذا، وهو الصدق ،و أما ما يلبس به الآن بعض المنتسبين للعلم، وقولهم: حكم الكتاب والسنة ثم يذكرون كلامهم بفهمهم، فهو خلط وتلبيس وغلط وتدليس؛ لأنهم استبدلوا كلام الأئمة الأعلام بفهمهم القاصر الناقص، الذي يشوبه الهوى والغرض، ولو استعرضوا تاريخ هؤلاء الأئمة ومناقبهم ،ومدي ما منحهم الله من عقل وفهم وذكاء واتساع علم وأنوار وأسرار وفيوضات ،يجاور ذلك أخلاق راقية، وشيم سامية،

وقيم الإسلام المنيرة ، وقبل ذلك وبعده الإخلاص لله رب العالمين وصلاح النفوس والداخل ، لسكنوا لكلامهم، وتيقنوا من كمال وجمال فقههم؛ لصلاح دنيانا وديننا ، ولأنفت نفوسهم، واستقذروا ما يأتون به من أقوال في حق هؤلاء الأئمة الأعلام.

ووردبريس › خطأ

كان هناك خطأ فادح في هذا الموقع.

معرفة المزيد حول استكشاف الأخطاء في ووردبريس.